فصل: القَوْل فِي الرَّد على السمنية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل:

جَمِيع أَقسَام الْخَبَر لَا يخرج عَن الصدْق وَالْكذب، فَكل خبر تعلق بالمخبر على غير مَا هُوَ بِهِ فَهُوَ كذب، وَلَا يتَصَوَّر خبر خَارج عَن الْقسمَيْنِ، وَهَذِه قسْمَة بديهة لَا سَبِيل إِلَى جَحدهَا.
ثمَّ كل خبر تعلق بمخبره على مَا هُوَ بِهِ فَهُوَ صدق، سَوَاء قارنه علم من الْمخبر أَو لم يقارنه، فَمن أطلق القَوْل بِكَوْن زيد فِي الدَّار وَكَانَ عِنْد الْإِطْلَاق مُقَدرا ظَانّا، ثمَّ تبين أَن الْأَمر على مَا قَالَه وفَاقا. فَالْكَلَام البادر مِنْهُ صدق، وَكَذَلِكَ من أخبر بِكَوْن زيد فِي الدَّار ظَانّا أَن الْأَمر كَذَلِك، ثمَّ تبين خِلَافه، فَالَّذِي بدر مِنْهُ كذب، وَإِن لم يقْصد تعمد الْخلف، فَإنَّا لَو لم نقل ذَلِك اسْتَحَالَ أَن نصفه بِالصّدقِ.
وكل خبر لم ينعَت بِالصّدقِ يجب نَعته بِالْكَذِبِ إِذا اتَّحد مُتَعَلّقه، وَفِيه احْتِرَاز عَن مَسْأَلَة تَأتي إِن شَاءَ الله.
وَمِمَّا يَلِيق بذلك إِنَّه لَو بدر من الْإِنْسَان رمز أَو إِشَارَة رام بهَا إِخْبَارًا، فالإشارة لَا تُوصَف بِالصّدقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، فَإِنَّهَا لَيست بِكَلَام، وَمن حكم الْخَبَر أَن يكون من أَقسَام الْكَلَام، وَإِذا لم يُطلق اسْم الْكَلَام حَقِيقَة على الْعبارَة لم نصفهَا بِالصّدقِ وَالْكذب تَحْقِيقا، وَلَو وصفهَا واصف بِأَحَدِهِمَا كَانَ متجوزا، فَأَما الرامز والمشير الَّذِي دلّت إِشَارَته على خَبره الْقَائِم بِهِ، فَلَا يَخْلُو عَن كَونه صدقا أَو كذبا، وَهَذَا مَا لَا خَفَاء بِهِ.

.فصل:

فَإِن قيل: فقد ذكرْتُمْ حَقِيقَة الْخَبَر، فبينوا أقسامه فِي الصدْق وَالْكذب.
قُلْنَا: الْأَخْبَار تَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام. أَحدهَا خبر عَن وَاجِب، وَالثَّانِي خبر عَن محَال، وَالثَّالِث خبر عَن جَائِز مُمكن.
فَأَما الْخَبَر عَن الْوَاجِب فَلَا يَقع إِلَّا صدقا، ثمَّ قد يعلم صَدَقَة ضَرُورَة، وَقد يعلم صَدَقَة بِدَلِيل، فَكل خبر عَن وَاجِب يدْرك وُجُوبه وثبوته ببداهة الْعقل فنعلم صدقه ضَرُورَة، وَذَلِكَ نَحْو الْخَبَر عَن كَون الْألف أَكثر من مائَة، وَنَحْو الْخَبَر عَن الْمَوْجُود لَا يَنْفَكّ من قدم أَو حدث، إِلَى غير ذَلِك.
فَأَما الْخَبَر الَّذِي يدْرك صدقه بِدَلِيل فَهُوَ الْخَبَر عَن ثُبُوت الصَّانِع، واتصافه بصفاته، فَهُوَ صدق يدْرك هَذَا الْوَصْف فِيهِ بِالدَّلِيلِ.
وَأما الْخَبَر عَن الْمحَال فَلَا يكون إِلَّا كذبا، ثمَّ يَنْقَسِم، فَرُبمَا يدْرك كَونه بضرورة الْعقل، وَرُبمَا يدْرك بالأدلة.
فَأَما الَّذِي يدْرك بضرورة الْعقل كَونه كذبا فَهُوَ نَحْو الْخَبَر عَن اجْتِمَاع الضدين، واجتماع الْجَوْهَر فِي الحيز الْوَاحِد، وَمن ذَلِك انخراق الْعَادَات المستمرة، نَحْو الإنباء عَن تفطر السَّمَاء، وتقلب الْأَحْجَار تبرا، إِلَى غير ذَلِك.
وَأما الَّذِي يدْرك استحالته بِدَلِيل، فَهُوَ نَحْو الْخَبَر عَن ثُبُوت حَادث لَا مُحدث لَهُ، وعالم لَا علم لَهُ، إِلَى غير ذَلِك وَأما الْخَبَر عَن الجائزات فَهُوَ نَحْو الْخَبَر عَن وجود مَا يَصح عَدمه أَو عدم مَا يَصح وجوده.
ثمَّ هَذَا الْقَبِيل يَنْقَسِم، فَمِنْهُ يدْرك صدقه ضَرُورَة، وَهُوَ الْخَبَر الْمُتَوَاتر المواثر المستجمع للشرائط الَّتِي سنذكرها إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَمِنْه مَا لَا يدْرك صدقه قطعاه وتفصيل القَوْل فِيهِ - فِي هَذَا الْقَبِيل - يَأْتِي فِي ي أَبْوَاب مبوبة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.القَوْل فِي الرَّد على السمنية:

ذهب الْفَرِيق من الْأَوَائِل إِلَى أَن اشياء من الْأَخْبَار لَا تُفْضِي إِلَى الْعلم، وَلَا فرق بَين الْمُتَوَاتر والمستفيض وَمَا نَقله الْآحَاد.
ومقصدنا الرَّد عَلَيْهِم فِي الْمُتَوَاتر من الْأَخْبَار فَنَقُول: نَحن نعلم ضَرُورَة أَن من تَوَاتَرَتْ لَدَيْهِ الْأَخْبَار عَن مَكَّة وبغداد وَسَائِر الْأَمْصَار الَّذِي يطرقها العابرون ويخبرون عَمَّا شاهدوه فَلَا يستريب الْعَاقِل فِيمَا هَذَا سَبيله، كَمَا لَا يستريب فِي المحسوسات.
وَإِذا تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار عِنْد الْمَرْء بِأَن فُلَانَة وَلدته لم يسترب فِي ذَلِك، وَإِن لم يُشَاهد الْولادَة، على سَلامَة الْحسن.
ثمَّ اعْلَم أَنا لَا نقصد بِمَا نطرد من الْكَلَام نصب الْأَدِلَّة، فَإِن الْمَسْأَلَة ضَرُورِيَّة.
وَإِنَّمَا مقصدنا الْإِيضَاح وكشف الْمَذْهَب ثمَّ من يجْحَد الضَّرُورَة قطع الْكَلَام، ثمَّ نقُول لَهُم: إِنَّمَا يتَمَيَّز الْعلم الضَّرُورِيّ عَن غَيره بِأَنَّهُ يَقع اضطرارا، وَلَا يجد الْإِنْسَان عَنهُ انفكاكا، وَقد يُحَقّق ذَلِك فِيمَا تَوَاتَرَتْ فِيهِ الْأَخْبَار، وَلَو جَازَ جَحده جَازَ جحد المحسوسات.
فان قيل: المحسوسات لما كَانَت مَعْلُومَة ضَرُورَة لم يجحدها جَاحد، وَأما مَا تَوَاتَرَتْ عَنهُ الْأَخْبَار فقد جحدناها.
قُلْنَا: وَقد جحد المحسوسات السفسطائية، وَزَعَمُوا أَن كل مَا يُسمى محسوسا فَلَا حَقِيقَة لَهُ، وَإِنَّمَا رؤيتنا لَهُ تخيل كحلم النَّائِم.
فَإِن قيل: هَذَا الْمَذْهَب يُؤثر عَنْهُم وَلم نر مِنْهُم طَائِفَة تقوم بهم حجَّة.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ لَا نزال ننقل مَذْهَب السمنية، وَلم نر حزبا وَفِئَة تكترث.

.فصل:

مَا صَار إِلَيْهِ أهل الْحق ومعظم الْمُعْتَزلَة إِن الْعلم بِصدق الْخَبَر الْمُتَوَاتر على الشَّرَائِط الَّتِي نصفهَا اضطرار، وَلَيْسَ سَبيله الْعُلُوم المستدركة بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال، وَزعم الكعبي من معتزلة الْعرَاق وَطَائِفَة من أَتْبَاعه أَن الْعلم بِصدق الْخَبَر الْمُتَوَاتر اسْتِدْلَال، وَمن أَتْبَاعه من يَقُول أَنه لَا يَقع إِلَّا عَن اسْتِدْلَال وَإِذا وَقع لم يتَقَدَّر التشكك فِيهِ والانفكاك مِنْهُ بِخِلَاف سَائِر الْعُلُوم النظرية، فَوجه الرَّد على الكعبي أَن نقُول: من النَّاس من يعلم صدق الْخَبَر الْمُتَوَاتر وَإِن لم يتَقَدَّر مِنْهُ إقدام على نظر واستدلال، فَإِن الصّبيان وَمن يحل محلهم من الَّذين لَا يعتنون بِالنّظرِ وسبر طرق الِاسْتِدْلَال يعلمُونَ أَن فِي الدُّنْيَا بقْعَة يُقَال لَهَا مَكَّة، ويعلمون أمهاتهم إِلَى غير ذَلِك مِمَّا ثَبت تواترا.
كَمَا يعلمُونَ المحسوسات من غير أَن ينظرا ويسبروا، وكما يعلمُونَ اسْتِحَالَة اجْتِمَاع المتضادات عِنْد اتصافهم بِالْعقلِ، فَلَو سَاغَ ادِّعَاء صُدُور الْعلم فِي الْمُتَوَاتر عَن النّظر سَاغَ مثله فِي المحسوسات، وَهَذَا مَا لَا فصل فِيهِ.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن الْعلم الَّذِي ندركه بِالنّظرِ يخْتَلف الْعُقَلَاء وارباب النّظر فِيهِ على حسب اخْتِلَاف درجاتهم فِي الفطنة والذكاء، وَاسْتِيفَاء الْأَدِلَّة، والإضراب عَنْهَا بالملال والضجر قبل انتهائها، وَهَكَذَا ألفينا أَرْبَاب النّظر فِي الْعُلُوم النظرية.
فَأَما الْعُلُوم الواقفة على التَّوَاتُر فمما لَا يخْتَلف فِيهِ أَرْبَاب الْأَلْبَاب، كَمَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي المحسوسات، وَسَائِر الْعُلُوم البديهية.
فَإِن قيل: لَو كَانَ الْعلم بالتواتر ضَرُورَة، لَكَانَ الكعبي يعرف كَونه ضَرُورَة، مَعَ كَثْرَة أَتْبَاعه والمعتزين إِلَيْهِ.
قُلْنَا: شَرط الْعلم الضَّرُورِيّ أَن يَسْتَوِي فِي دركه أَرْبَاب الْعُقُول مَعَ اسْتِوَاء أَحْوَالهم فِي السَّلامَة وَانْتِفَاء الْآفَات، وَإِن شَذَّ شرذمة بعناد فَلَا يبلغون عددا تقوم بمثلم حجَّة.
وَلَيْسَ من شَرط الْعلم الضَّرُورِيّ اتِّفَاق أَرْبَاب الْأَلْبَاب على كَونه ضَرُورِيًّا بل لَا يمْتَنع أَن يعْتَقد بعض المعتقدين كَون الْعلم الضَّرُورِيّ كسبيا وَكَون الكسبي ضَرُورِيًّا، وَكَون غَلَبَة الظَّن الصادرة عَن التَّقْلِيد علما، فَهَذَا مِمَّا لَا بعد فِيهِ، فاحفظه.

.فصل:

فان قَالَ قَائِل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْأَخْبَار إِذا تَوَاتَرَتْ فيولد عِنْدهَا تواترها الْعلم بالمخبر عَنهُ؟
قُلْنَا: هَذَا بَاطِل من أوجه: مِنْهَا: أَن القَوْل بِأَصْل التولد بَاطِل على مَذَاهِب أهل الْحق ويستقصى الْكَلَام فِيهِ فِي الديانَات.
وَمِنْهَا: أَنا وَإِن قُلْنَا بالتولد فَالْقَوْل بِهِ هَهُنَا محَال لِأَن الْقَائِلين بالتولد أَجمعُوا على اسْتِحَالَة توليد الْوَاحِد منا علما منا فِي غَيره.
فَلَو كَانَت الْأَخْبَار مولدة للَزِمَ أَن يكون الْعلم الْمُتَوَلد عَنْهَا من فعل المخبرين فَإِن الْمُسَبّب يكون فعلا لمن السَّبَب فعلا لَهُ، فَلَمَّا اسْتَحَالَ كَون الْعلم الْوَاقِع للْإنْسَان من فعل المخبرين انحسم الْبَاب.
فَإِن قيل: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْعلم يَقع عَن النّظر فِي الْأَخْبَار المتواترة.
قُلْنَا: قد ذكرنَا فِي صدر الْكتاب ان النّظر لَا يُولد الْعلم ثمَّ ذكرنَا آنِفا إِن الْعلم بالمتواتر لَيْسَ بمظنون فِيهِ، وَلَا مستدل عَلَيْهِ فَبَطل مَا قَالُوهُ. أَنا نلزمها وَمِمَّا نلزمم على القَوْل بالتولد أَن نقُول: إِن الْعلم يَقع فعلا للمخبرين فَيُؤَدِّي إِلَى أَن يكون الْفِعْل الْوَاحِد وَاقعا على افعلين، وَهَذَا مَا اتّفق الْقَائِلُونَ بالتولد على استحالته، وَالْأولَى لَك إِحَالَة ذَلِك على إبْطَال القَوْل بالتولد.

.القَوْل فِي ذكر صِفَات أهل التَّوَاتُر الَّذين يعلم صدقهم اضطرارا:

اعْلَم، وفقك الله، أَن لأهل التَّوَاتُر الَّذين يَقع الْعلم بصدقهم ضَرُورَة أَوْصَاف إِذا اجْتمعت ثَبت الْعلم الضَّرُورِيّ، وَإِن اخْتَلَّ وَاحِد مِنْهُمَا لم يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ فِي مجْرى الْعَادة، فأحد الْأَوْصَاف: أَن يكون المخبرون عَالمين بِمَا أخبروا عَنهُ.
وَالثَّانِي: أَن يَكُونُوا مضطرين إِلَى الْعلم الْحَاصِل لَهُم، مخبرين عَن علمهمْ الضَّرُورِيّ. وَالثَّالِث: أَن يزِيد عَددهمْ على الْأَرْبَع، فَلَو كَانُوا أَرْبعا فَمَا دونه لم يَقع الْعلم الضَّرُورِيّ بأخبارهم.
فَهَذِهِ هِيَ الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة.
ثمَّ اعْلَم بعد ذَلِك أَن مَا نقل من الْأَخْبَار المتواترة، وتوالت فِي نقلهَا الْأَعْصَار، ونقلها الْخلف عَن السّلف فَيَنْبَغِي أَن يكون حَال من نقل عَن الْأَوَّلين فِيمَا ذَكرْنَاهُ من الْأَوْصَاف كَحال الْأَوَّلين فِيمَا علموه ضَرُورَة، وَكَذَلِكَ النقلَة فِي الرُّتْبَة التالية، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى بقول الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّا نشترط فِي عدد التَّوَاتُر اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ والواسطة.
فان قيل: فأثبتوا مَا ذكرتموه من الْأَوْصَاف.
قُلْنَا: أما الدَّلِيل على اشْتِرَاط كَون النقلَة عَالمين، أَنهم لَو نقلوا عَن ظن وحدس أوشك لم يثبت الْعلم، وإيضاح ذَلِك بالمثال أَن أهل بَغْدَاد لَو أَنهم رَأَوْا طللا عَن بعيد ظنوه إنْسَانا، فَلَا يتَحَقَّق مِنْهُم فِي مُسْتَقر الْعَادة الْقطع بِكَوْنِهِ إنْسَانا مَعَ التشكيك فِيهِ.
وَلَو قدر ذَلِك على بعد لم يعقب الْعلم، وَكَيف يتَحَقَّق الْعلم بِمَا هُوَ مظنون عِنْد النقلَة.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك مَا ثَبت من الْعُلُوم نظرا واستدلالا فإطباق الْمَلأ الْعَظِيم عَلَيْهِ لَا يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ فَمَا كَانَ مظنونا مشكوكا فِيهِ فَذَلِك أولى.
وَأما الدَّلِيل على اشْتِرَاط أَن المخبرين عَالمين اضطرارا فَمَا أومأنا إِلَيْهِ آنِفا، وَذَلِكَ أَن أهل الْإِسْلَام يزِيد عَددهمْ على عدد التَّوَاتُر فِي الْأَقَل قطعا وَإِن كُنَّا لَا نحد أَقَله على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ثمَّ أخبارهم عَن المعارف واصول التَّوْحِيد لَا توجب الْعلم الضَّرُورِيّ، وَإِن كَانُوا عَالمين بِمَا اخبروا عَنهُ اسْتِدْلَالا، وكما لَا يثبت الْعلم ضَرُورَة فِي هَذِه الْمنزلَة، فَكَذَلِك لَا يثبت نظرا فِي الْخَبَر على مَا سنقرره بعد ذَلِك إِن شَاءَ الله لَهُ تَعَالَى وَأما الدَّلِيل على اشْتِرَاط عدد زَائِد على الْأَرْبَعَة فَهُوَ أَن نقُول: وجدنَا الْأَرْبَعَة فَمَا دونهم يشْهدُونَ فِي الْخُصُومَات ومفاصل الْقَضَاء وَلَا يثبت للْمَشْهُود لَدَيْهِ الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم مَعَ أخبارهم عَمَّا شاهدوه وعاينوه، وكونهم عَالمين فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى بِمَا أخبروا عَنهُ، وصادفنا الْعَادة مستمرة فِي ذَلِك فَكَذَلِك استمرت الْعَادة فِي انْقِضَاء الْعُلُوم عِنْد ادِّعَاء المدعين حُقُوقهم مَعَ انقسامهم فِي علم الله تَعَالَى إِلَى الصَّادِقين والكاذبين، وَلم يبْق فِي اسْتِمْرَار الْعَادة ثُبُوت الْعلم على عقب دعاوي المدعين.
فَلَو سَاغَ فِي حكم الْعَادة ثُبُوت الْعلم بأخبار الْأَرْبَعَة فَمَا دونهم لَو جد ذَلِك فِي البدور أَو على الظُّهُور فِي بعض الحكومات ولاستمر ذَلِك فِي دَعْوَى المدعين.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك كُله أَن الْعلم الضَّرُورِيّ لَو كَانَ يحصل بقول وَاحِد فَمَا فَوْقه لَكَانَ أولى الاحاد بذلك الْأَنْبِيَاء ومَا أفْضى إِخْبَار وَاحِد مِنْهُم صلوَات الله عَلَيْهِم إِلَى الضَّرُورَة مَعَ تعلق أخبارهم بِبَعْض المشاهدات والمحسوسات.
ويعتضد هَذِه الْفُصُول بِأَن نقُول الْعدَد الْكثير والجم الْغَفِير الَّذِي يَقع الْعلم بنقلهم كَأَهل جَانِبي بَغْدَاد لما اقْتضى نقلهم الْعلم على الْوَصْف الَّذِي ذَكرْنَاهُ لم تخْتَلف الْعَادة فِي ذَلِك، فَلَا يجوز أَن ينقلوا مرّة مَا علموه اضطراراً فنعلم مَا نقلوه ضَرُورَة، وينقلوا مرّة أُخْرَى فيستراب فِي نقلهم.
فَلَو كَانَ الْعلم يحصل بِنَقْل الْأَرْبَع لما استمرت الْعَادة فِي الصُّور الَّتِي ذَكرنَاهَا على انْتِفَاء الْعلم.
ومقصدنا بِمَا ذَكرْنَاهُ الرَّد على النظام فَإِنَّهُ صَار إِلَى أَن خبر الْوَاحِد قد يقْتَرن فِي بعض الْأَحْوَال بقرائن فيفضي مَعهَا إِلَى الْعلم الضَّرُورِيّ.
فَنَقُول لَهُ: لَو كَانَ كَمَا قلته لوجد ذَلِك فِي شَهَادَة الشُّهُود وأقوال الْأَنْبِيَاء أَو دَعْوَى المدعين وَهَذَا لَا محيص لَهُ عَنهُ، وَلَا يغرنك تمويهه وتصويره فِي الْوَاحِد الْمخبر مَعَ قَرَائِن تقترن بِهِ فَإِن كل مَا يصوره قد يَتَقَرَّر فِي الْعَادة تصور مثله مَعَ تعمد الْخلف أَو تصور الْغَلَط فَكل صُورَة فَرضهَا عَلَيْك فارتكبها وَلَا يرد عَنْك تَصْوِيره فِيهَا.
فَإِن قيل: معولكم على الشُّهُود فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم مَا نقلوا حَقِيقَة مَا رَأَوْا وَلَو نقلوا ذَلِك لأفضى إِلَى الْعلم.
قُلْنَا: فَهَذَا هُوَ النَّاقِص الْمَحْض، وأنى يَسْتَقِيم ادِّعَاء الضَّرُورَة عِنْد أَخْبَار الْآحَاد تمسكا بتخيل فِي الْعَادة، مَعَ الْمصير إِلَى أَن كَافَّة الشُّهُود فِي الْعَادة يجوز أَن يتواطؤا أَو يتواضعوا على التحريف، وَترك الْأَنْبِيَاء عَن حَقِيقَة مَا علموه، وَنحن نعلم ضَرُورَة أَن مَا ادعا ذَلِك على كَافَّة الشُّهُود، وَقد يفضى إِلَى الْعلم الضَّرُورِيّ فِي بعض الْأَحَايِين قُلْنَا: هَذَا اجتراء مِنْكُم على صَاحب الشَّرِيعَة وَإِطْلَاق القَوْل على مجازفة، فَإنَّا نعلم أَن أحدا من الْقُضَاة لَا يقطع بِصدق الشُّهُود وَانْتِفَاء الزلل وتعمد الْخلف.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن نقُول شَهَادَة الشُّهُود لَو اقْتضى علما فِي حَال ولم يقتضه فِي حَال أوجب التَّوَقُّف فِي شَهَادَة من لم تقتض شَهَادَته علما، وَهَذَا مَا قَالَ بِهِ قَائِل، وَلَئِن سَاغَ ادِّعَاء مَا قَالُوهُ فِي الشَّهَادَة مَعَ اتِّفَاق الْأمة على أَن كل حكم مترتب على الشَّهَادَة مُجْتَهد فِيهِ مَبْنِيّ على غَالب الظَّن وَلَيْسَ بمقطوع بِهِ بديهة فَأنى يَسْتَقِيم مثل هَذِه المباهتة فِي دَعْوَى المدعين؟ فاضمحل مَا قَالُوهُ، وَتبين عنادهم فِيمَا سَأَلُوهُ.
فَهَذِهِ جملَة الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي أهل التَّوَاتُر وَقد اندرج تحتهَا مَا قدمْنَاهُ من اسْتِوَاء طرفِي النقلَة وواسطتهم إِذا نقل الْخَبَر خلف عَن سلف، فَإنَّا أوضحنا فِيمَا قدمْنَاهُ أَن من شَرط إفضاء التَّوَاتُر إِلَى الْعلم الضَّرُورِيّ علم النقلَة وواسطتهم إِذا نقل الْخَبَر خلف عَن سلف ضَرُورَة فِي زيادتهم على الْأَرْبَع، فَلَو اتّصف بذلك النقلَة أَولا، واختل وصف فِي الْوَاسِطَة، بِأَن يكون الْمَنْقُول إِلَيْهِم عددا لَا تقوم بهم الْحجَّة، فَهُوَ وَإِن علمُوا مَا نقل إِلَيْهِم ضَرُورَة، فَإِذا نقلوا فَلَا نعلم من نقلهم مَا علموه لاختلال بعض الْأَوْصَاف الَّتِي قدمناها، وَلذَلِك نقُول أَن مَا نقلته النَّصَارَى من صلب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَا يثبت، وَإِن كَانَ عَددهمْ زَائِدا على أقل عدد التَّوَاتُر، لأَنهم إِنَّمَا نقلوه عَن عدد لَا تقوم بهم الْحجَّة، وَلَو نقلوا خلفا عَن سلف مَعَ اسْتِوَاء جملَة النقلَة فِي الْأَوْصَاف الْمُقدمَة لما تصور مِنْهُم نقل بَاطِل، وَكَذَلِكَ مَا يَنْقُلهُ الروافض من التَّنْصِيص على عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الْإِمَامَة فَهَذَا مخرجه فَإِنَّهُم وَإِن بلغُوا مبلغا فِي الْعدَد فَلم يشاهدوا مَا نقلوه، وَلم يثبت مثل عَددهمْ فِي جملَة النقلَة خلفا وسلفا، فأحط علما بذلك. فَإِذا اسْتَقَرَّتْ الشَّرَائِط الَّتِي ذَكرنَاهَا بِالدّلَالَةِ، فَاعْلَم أَن طَائِفَة من الْجُهَّال المنتمين إِلَى أهل النّظر شرطُوا فِي أهل التَّوَاتُر سوى مَا ذَكرنَاهَا، وَنحن نذْكر جملَة وَاحِدَة ثمَّ نبطلها وَاحِدًا وَاحِدًا.
فمما شَرطه بَعضهم أَن قَالَ يَنْبَغِي أَن يكون النقلَة بِحَيْثُ لَا يحصرهم عدد، وَلَا يحويهم بلد وَمِنْهَا أَن تخْتَلف أنسابهم وتتغاير آباؤهم وتفترق أوطانهم وَمِمَّا اشترطوا أَن لَا يحملوا بالقهر، فَلَو كَانُوا مجبرين لم يقتض خبرهم الْعلم وَمِنْهَا: ان لَا يضموا إِلَى مَا نَقله شَيْئا يحيله الْعقل فَلَو جمعُوا بَين جَائِز ومستحيل فَلَا يَقْتَضِي خبرهم الْعلم بالجائز، لضمهم المستحيل إِلَيْهِ.
وَمِمَّا شرطُوا: أَن يجْتَمع فِي النقلَة أهل الْأَدْيَان الْمُخْتَلفَة.
وَشرط بَعضهم أَن يَكُونُوا مُؤمنين منزهين عَمَّا يشينهم.
وَشرط طَائِفَة من الْيَهُود أَن يكون النقلَة فِي دَار ذلة تحث بذل جِزْيَة، وَأما أهل الِاخْتِيَار فِي دَار فاهية فَلَا تقوم الْحجَّة بنقلهم.
وَطَرِيق إبْطَال هَذِه الشَّرَائِط أَن نفرض فِي كل صُورَة على خلاف الشَّرَائِط الْمَشْرُوطَة خَبرا مقتضيا علما مَعَ انْتِفَاء مَا شرطوه، وَإِن اعْتَرَفُوا بِهِ فقد أبطلوا مَا شرطوه، وَإِن جحدوه انتسبوا إِلَى جحد الضَّرُورَة، ولزمهم جحد أصل التَّوَاتُر.
فَأَما من شَرط أَن يكون أهل التَّوَاتُر بِحَيْثُ لَا يحصرهم عدد وَلَا يحويهم بلد، فَيُقَال لَهُ: لَو اجْتمع أهل بَغْدَاد على نقل فِيمَا اضطروا إِلَى علمه فَهَل يَقْتَضِي نقلهم علما؟
فَإِن قَالُوا يَقْتَضِيهِ وَلَا بُد مِنْهُ، كَيفَ؟ ويلزمهم القَوْل بِهِ فِي اصل محلّة من محَال بَغْدَاد، فَإِذا تمهد ذَلِك فَأهل بَغْدَاد يحصرهم عددنا وَيدخل فِي الْمَقْدُور عَددهمْ ويحويهم بلد، وَإِن جَحَدُوا ذَاك وَزَعَمُوا أَن إخبارهم لَا يَقْتَضِي الْعلم، فقد باهتوا وَلَا يخرجُون مَعَ هَذِه المباهتة من قَول من يُنكر اصل التَّوَاتُر.
وَأما اشْتِرَاط اخْتِلَاف الْأَنْسَاب فَلَا معنى لَهُ، فَإنَّا لَو قَدرنَا عددا لسكان بَغْدَاد وهم ينتمون إِلَى نسب وَاحِد، ثمَّ أخبروا عَمَّا علموه مُشَاهدَة فيتضمن خبرهم ثُبُوت الْعلم لَا محَالة، وجاحد ذَلِك ينجذب إِلَى جحد أهل التَّوَاتُر.
وَكَذَلِكَ اخْتِلَاف الأوطان لَا معنى لاشتراطه فَإِن الْبَلدة الْعَظِيمَة لَو شغرت عَن الغرباء فَيكون نقلهم فِي مجْرى الْعَادة كنقلهم إِذا خالطهم الغرباء وَأما اشتراطهم أَن لَا يَكُونُوا مقهورين فيفضل القَوْل عَلَيْهِم فِي ذَلِك، فَيُقَال: إِن صورتم ذَلِك فِيهِ إِذا لم يعلمُوا مَا أخبروا عَن نَقله، فَلَا يَقْتَضِي نقلهم الْعلم، لعدم علمهمْ بِمَا نقلوه لَا لكَوْنهم مجبرين وَقد بَيْننَا أَن ذَلِك فِيمَا قُلْنَاهُ بِهِ من الشَّرَائِط، وَإِن نقلوا مَا علمُوا ضَرُورَة فَيَقْتَضِي نقلهم الْعلم وَإِن كَانُوا مجبرين خَائِفين لَو تركُوا النَّقْل.
على أَن نقُول: مَا ذكرتموه من الْأَخْبَار فِي حق أهل التَّوَاتُر يصعب تصَوره، فَإِن أهل بَغْدَاد وَمن دونهم لَو رَأَوْا شَيْئا أَو سَمِعُوهُ فَلَا يتَحَقَّق فِي مجْرى الْعَادة أَن يمْتَنع كلهم عَن التفاوض بِمَا رَأَوْهُ حَتَّى يجبروا عَلَيْهِ، بل لَو أجبروا بِالسَّيْفِ على الْكَفّ عَن نقل مَا رَأَوْهُ، فالعادة أَن بَعضهم ينْطق بِمَا رأى وَلَا ينكتم الْأَمر، فَتبين أَن مَا صوروه من الْقَهْر فِي حق الكافة، لَا معنى لَهُ، وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن كل مَا ذَكرُوهُ مِمَّا لَا يحد بِحُصُول الْعلم تعلقا بِهِ فِي مجْرى الْعَادة فَتعين القَوْل بإبطاله.
وَأما اشْتِرَاط تَحْدِيد الْخَبَر عَن الْجَائِز، وَترك ضم المستحيل إِلَيْهِ فَلَا معنى لَهُ.
فَإِن الْمُعْتَزلَة مَعَ جمعهم وَكَثْرَة عَددهمْ لَو رَأَوْا شَيْئا فنقلوا مَا رَأَوْهُ وقربوه بِذكر اعْتِقَادهم الْفَاسِد فِي بعض الْأُصُول لم يقْدَح ذَلِك فِي الْعلم سَوَاء جردوا خبرهم، وقربوا بِخُرُوج الْأمين وَالَّذِي لَا علم لَهُ، وَكَذَلِكَ أهل بلد الرّوم إِذا أخبروا عَن مُشَاهدَة اضطررنا إِلَى الْعلم بهَا، وَإِن كَانُوا يقرنون نقلهم بكفرهم.
وَأما اشْتِرَاط اخْتِلَاف الْأَدْيَان، فَلَا معنى لَهُ، فَإنَّا نعلم أَن أهل الْإِسْلَام باجمعهم لَو رَأَوْا شَيْئا و نقلوا مَا رَأَوْا اضطرارا إِلَى مَا نقلوه، وَإِن أنكر الْخصم ذَلِك أَنْكَرْنَا فِي مُقَابلَة أصل التَّوَاتُر.
فَأَما من شَرط أَن يَكُونُوا فِي ذَلِك من الْيَهُود، فَهَذَا الحكم مِنْهُم يُبطلهُ مَا قدمْنَاهُ من الصُّور، على أَن نقُول لَهُم: فَأنْتم معاشر بني إِسْرَائِيل قبل ان ضربت عَلَيْكُم الْجِزْيَة ونالتكم الذلة لَو نقلتم عَن دينكُمْ شَيْئا هَل كَانَ يَقع بِهِ الْعلم؟ فان قَالُوا: أجل فقد أبطلوا شَرط الذلة، وَإِن قَالُوا لَا تقع الْعلم، فقد أبطلوا دينهم، فَإِن الذلة مَا كَانَت متأبدة عَلَيْهِم مذ كَانُوا، وَإِنَّمَا هِيَ طارئة وَلَهُم إِن نقلوا أديانهم عَن اقوام لم يَكُونُوا فِيمَا هم فِيهِ من الذلة والجزية.
وَأما من شَرط أَن يكون أهل النَّقْل مُؤمنين أَو عدلا، فقد أحَال فِيمَا قَالَ، فَإنَّا نعلم أَن بِلَاد الْكَفَرَة الَّتِي تنطوي على النواحي والأمصار، وشغر عَن الْمُسلمين، وَمن نَشأ مِنْهُم بِبَلَد، وَالْأَخْبَار تتواتر عَلَيْهِ من الْكَفَرَة بِأَن فِي الْموضع الْفُلَانِيّ مصرا، فيضطر إِلَى علم ذَلِك، كَمَا يضْطَر الْمُسلمُونَ إِلَى الْعلم بِمَكَّة وبغداد، وَغَيرهمَا من الْأَمْصَار، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده، وَمن جَحده انتسب إِلَى جحد الْحَقَائِق، فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ.
فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ فِيمَا شرطتموه أَن عدد التَّوَاتُر يزِيد على الْأَرْبَع، وَلَا شكّ فِي أهل التَّوَاتُر إِذا بلغُوا الْمبلغ الَّذِي ذكرتموه فَلَا يُوجب خبرهم الْعلم إِيجَاب الْعلَّة معلولها، فَهَل تجوزون فِي المقدورات أَن يثبت الْخَبَر، وَلَا يعقبه الْعلم؟ أم هَل تجوزون أَن ينْقل الْوَاحِد فيعقب نَقله الْعلم الضَّرُورِيّ قُلْنَا: إِن كَانَت الْمَسْأَلَة فِي حكم الْمَقْدُور فَكل مَا ذكرتموه سَائِغ فِي الْمَقْدُور.
وَلَكنَّا نعلم ضَرُورَة أَن الْعَادَات لَا تنخرق فِي زَمَاننَا، كَمَا نقطع أَن الْبحار مَا فجرت ونضبت، وَالسَّمَوَات مَا انفطرت وكل مَا ذَكرْنَاهُ من طرق الْأَدِلَّة إِخْبَار منا عَمَّا وجدنَا عَلَيْهِ الْعَادَات المستمرة، ثمَّ بضرورة الْعقل نعلم أَن الْعَادَات لَا تنْقَلب فِي زَمَاننَا، وَمن كَمَال الْعقل معرفَة ذَلِك، كَمَا قدمنَا فِي صدر الْكتاب.

.فصل:

فَإِن قَالَ قَائِل: قد ذكرْتُمْ أَن عدد التَّوَاتُر يزِيد على أَربع، فَمَا اقله؟ وَهل يتحدد بِعَدَد؟
قيل: قد اخْتلف أرباب الْأُصُول فِي ذَلِك على مَذَاهِب مُخْتَلفَة، وَنحن نومىء إِلَيْهَا، ثمَّ نذْكر مَا نختاره.
فَذهب العلاف وَهِشَام بن عَمْرو الفوطي إِلَى أَن، الْحجَّة لَا تقوم بالْخبر حَتَّى يَنْقُلهُ عشرُون من الْمُؤمنِينَ الَّذين هم أَوْلِيَاء الله تَعَالَى، واعتصما فِي ذَلِك بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ}.
وَذهب بعض أتباعهم إِلَى أَن الْحجَّة لَا تقوم إِلَّا بِنَقْل سبعين رجلا، تمسكا بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قومه سبعين رجلا}.
وَذهب بعض الْمُتَقَدِّمين إِلَى أَن الْحجَّة إِنَّمَا تقوم بِنَقْل ثَلَاثمِائَة وَثَلَاث عشر، مصيرا مِنْهُم إِلَى ان هَذَا عدد الْمُسلمين يَوْم بدر.
وَذهب مُعظم الروافض الإمامية إِلَى أَن الْحجَّة إِنَّمَا تقع بقول الإِمَام الْمَعْصُوم فَإِن قَالَ وَحده قَامَت الْحجَّة بقوله، وان قَالَه أنَاس هُوَ فيهم، وهم غير مقيمين عَنْهُم قَامَت الْحجَّة بِهِ.
وَذهب ضرار بن عَمْرو إِلَى ان الْحجَّة بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقوم إِلَّا بِإِجْمَاع الْأمة.
وَذَهَبت الأباضية من الْخَوَارِج إِلَى أَن الْحجَّة إِنَّمَا تقوم إِذا كَانَ الْخَبَر عَن حق فتقوم الْحجَّة، وسواءته اتَّحد الْقَائِل اَوْ تعدد النقلَة، وَذهب صَاحب أبي الْهُذيْل الْمَعْرُوف بِأبي عبد الرَّحْمَن إِلَى مَذْهَب خَالف فِيهِ سَائِر الْمذَاهب فَقَالَ: مهما أخبر خَمْسَة من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى من الْمُؤمنِينَ قَامَت الْحجَّة بإخبارهم بِشَرْط أَن يَكُونُوا فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى معصومين عَن الْكَذِب، ثمَّ قَالَ لَا يجوز ان يخبروا بِحَيْثُ ينعتون فِي كَونهم أَوْلِيَاء، بل يجب أَن يَنْضَم إِلَيْهَا سادس لَيْسَ من الْأَوْلِيَاء لتلتبس أعيانهم، فَلَا نشِير إِلَى وَاحِد مِنْهُم إِلَّا وَيجوز أَن يكون هُوَ السَّادِس الَّذِي لَيْسَ بولِي، ثمَّ إِذا ثبتَتْ هَذِه الْأَوْصَاف فَيثبت الْعلم بنقلهم ضَرُورَة، ثمَّ من أعجب مَا نقل مِنْهُ أَن قَالَ: تثبت الْحجَّة بالخمسة إِلَى عشْرين، وسنفصل عَلَيْهِ القَوْل فِي ذَلِك، ثمَّ اعْلَم استقصاء الْكَلَام على هَؤُلَاءِ يَلِيق بفن الْكَلَام فِي أَحْكَام الْإِمَامَة وَغَيرهَا، بيد أَنا نذْكر مِمَّا يسْتَقلّ بِهِ فِي الرَّد على كل وَاحِد مِنْهُم.
فَأَما قَالَه العلاف من التَّقْيِيد بالعشرين من الْمُؤمنِينَ فتقابل بِالْعشرَةِ اَوْ بِالْمِائَةِ فتقابل الْمذَاهب، وَلَا مستروح فِي ظَاهر قَوْله تَعَالَى: {إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ} فَإِن الْمَقْصد من الْآيَة إِيجَاب المصابرة على هَذَا الْوَجْه فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن حكم الْخَبَر فِيمَا شرطوه لَا ينْسَخ، وَهَذَا الحكم مَنْسُوخ فِي كتاب الله تَعَالَى لقَوْله: {الئن خفف الله عَنْكُم} الْآيَة.
وَأما اشْتِرَاط الْإِيمَان فقد سبق وَجه الرَّد عَلَيْهِ، وبقريب من ذَلِك يرد على من قرب بالسبعين وَغَيره من الْأَعْدَاد المحصورة وَلَا معتصم من شَيْء مِمَّا عولوا عَلَيْهِ، وَلَيْسَت غَزْوَة بدر أولى من بعض الْغَزَوَات، وَهَذَا مَا لَا يُسَاوِي تسويد الْبيَاض بِالْجَوَابِ عَنهُ.
وَأما مَا صَار إِلَيْهِ الإمامية فحقيقة الرَّد عَلَيْهِم ينبىء عَن إبْطَال أصلهم فِي القَوْل بِالْإِمَامِ الْمَعْصُوم، وَلَا سَبِيل إِلَى الخوص فِيهِ، على أَنا نقُول إِذا اتّفق أهل بَغْدَاد على نقل مَا شاهدوه فَهَل يُوجب ذَلِك الْعلم الضَّرُورِيّ؟ فَذَلِك لأَنا نجوز كَون الإِمَام فيهم.
قُلْنَا: فَهَل تقطعون بِكَوْن الإِمَام فيهم، فَإِن قَالُوا: لَا نقطع بذلك، فقد تبين بطلَان مَذْهَبهم، فَإِن الْعلم الضَّرُورِيّ قد حصل قطعا، ومقتضيه مَشْكُوك فِيهِ على أصلهم، وَإِن باهتوا وَقَالُوا نقطع بِكَوْن الإِمَام فيهم.
فَيُقَال مَا من نَاحيَة مثل بَغْدَاد إِلَّا وَينزل أَخْبَار أَهلهَا عَن المشاهدات فِي الْإِفْضَاء إِلَى الضروريات منزلَة بَغْدَاد، وَنحن نعلم أَن أهل كل بَلْدَة عَظِيمَة إِذا أخبروا فِي كل يَوْم عَن مُشَاهدَة يثبت الْعلم الضَّرُورِيّ، لَا يخْتَص بِنَاحِيَة من نواحي الْعَالم، وَإِن أنكرو شَيْئا من ذَلِك كَانَ جحدا مِنْهُم لأصل التَّوَاتُر وَالْكَلَام عَلَيْهِم كَالْكَلَامِ على السمنية.
وَأما مَا ذكرته الأباضية من أَن الْخَبَر إِذا كَانَ صدقا اقْتضى الْعلم سَوَاء اتَّحد ناقله أَو تعدد نقلته، فَهَذَا بَاطِل، فَإنَّا نعلم أَن إخبارنا عَن ثبوبت الصَّانِع لَا يُوجب الْعلم لمنكر الصَّانِع وَكَذَلِكَ قد يُشَاهد الْوَاحِد منا الشَّيْء ويخبر عَنهُ، ثمَّ يضْطَر إِلَى ان الَّذين أخْبرهُم لم يصدقوه وَلم يعلمُوا مَا أخبر عَنهُ فَبَطل مَا قَالُوهُ.
وَأما مَا قَالَه صَاحب أبي الْهُذيْل من أَن الْخَمْسَة الْمُؤمنِينَ المعصومين إِذا كَانَ مَعَهم سادس لَيْسَ بمعصوم وأخبروا عَن مُشَاهدَة فيضطر إِلَى صدقهم.
فَيُقَال لَهُ لم قيدت أقل الْعدَد فِي ذَلِك بالخمس؟
فَإِن قيل: إِنَّمَا قيد الْخمس لثُبُوت الدَّلِيل على أَن الْأَرْبَع لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر، ثمَّ لم يُنكر عددا فَوق ذَلِك، فَأول عدد بعد الْأَرْبَعَة الْخَمْسَة.
فَيُقَال: أما خُرُوج الْأَرْبَع عَن كَونهم عدد التَّوَاتُر مُسلم، فَلم قُلْتُمْ إِن الْأَرْبَع إِذا لم يَكُونُوا عدد التَّوَاتُر فَيكون الْخمس عدد التَّوَاتُر فَمَا وَجه التَّوَصُّل إِلَى ذَلِك؟
وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْأَرْبَع لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر وَلَا يثبت بعده عدد مَحْصُور يقطع بِأَنَّهُ اقل عدد التَّوَاتُر، ثمَّ يُقَال لَهُم لَهُم شرطتم الْعِصْمَة وَقد أوضحنا فِيمَا قدمنَا بِأَن أَخْبَار الْكَفَرَة إِذا بلغُوا مبلغ التَّوَاتُر يَقْتَضِي الْعلم الضَّرُورِيّ، ثمَّ يُقَال لَهُ: فَإِذا ثَبت الْعِصْمَة فَهَلا اكتفيت بالأربع فَمَا دونهَا، ثمَّ يُقَال لَهُ: فَمَا معنى قَوْلك من الْخمس إِلَى الْعشْرين فَمَا وَجه التَّحْدِيد بالعشرين؟ وَلَيْسَ هَذَا بِالْأَكْثَرِ، وَلَا بالأوسط، وَلَا بِالْأَقَلِّ، وَلم كَانَ ذكر الْعشْرين مَعَ خُرُوجه عَن هَذِه الصِّفَات أولى من ذكر الْمِائَة فَمَا فَوْقهَا، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كل وَجه، فَإِذا بطلت هَذِه الْمذَاهب بَقِي علينا بعد إِبْطَالهَا أَن نذْكر مَا نرتضيه فِي أقل عدد التَّوَاتُر.

.فصل:

مَا ارْتَضَاهُ أهل الْحق أَن أقل عدد التَّوَاتُر مِمَّا لَا سَبِيل لنا إِلَى مَعْرفَته وَضَبطه، وَإِنَّمَا الَّذِي نضبطه مَا قدمنَا ذكره أَن الْأَرْبَع فَمَا دونه لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر، فَأَما فَوق الْأَرْبَع فَلَا نشِير إِلَى عدد فنفى عَنهُ كَونه اقل التَّوَاتُر، وَكَذَلِكَ لَا نشِير إِلَى عدد مَحْصُور فنزعم أَنه الْأَقَل.
فَإِن قيل: فَلَو اتّفق أَن يخبرنا خَمْسَة عَن مُشَاهدَة فيضطر إِلَى الْعلم بِمَا اخبروه، فَهَل يقطع عِنْد اتِّفَاق ذَلِك أَن أقل عدد التَّوَاتُر خَمْسَة؟
قيل: لَو اتّفق ذَلِك كَمَا وصفتموه لقطعنا القَوْل بِمَا ذكرتموه بيد أَن ذَلِك لم يتَّفق على اسْتِمْرَار الْعَادة فَإِن قيل: إِذا أخبرونا خَمْسَة فَلم يَقع الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم وَوَجَب الْقطع بِأَنَّهُم لَيْسُوا عدد التَّوَاتُر؟
قُلْنَا: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك فَإنَّا نقطع بِأَن عدم حُصُول الْعلم مُرَتّب على نُقْصَان الْعدَد غير أَنا نجوز أَن يكون ذَلِك لَكَاذِب فيهم أَو مقلد مخمن، فَإِذا كُنَّا نجوز أَيْضا مَا قلتموه وَإِذا أخبرنَا عشرَة مثلا واضطررنا إِلَى صدقهم وَجب أَن يقطع بكونهم أقل الْعدَد. قُلْنَا: لَا سَبِيل إِلَى ذَلِك، فَإنَّا نجوز أَن يحصل الْعلم بأخبار عدد دونهم. فَخرج مِمَّا قدمْنَاهُ أَن أقل عدد التَّوَاتُر مِمَّا لَا يَنْضَبِط، وَلَا يدل على عدد بِعَيْنِه دلَالَة عقلية وَلَا دلَالَة سمعية وَقد أوضحنا فَسَاد كل تَقْدِير قَالَ بِهِ أحد الْعلمَاء، فَلم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ.

.فصل:

قد ذهب فريق من الْمُتَكَلِّمين إِلَى أَن صدق أهل التَّوَاتُر قد يعرف ضَرُورَة، وَقد يعرف اسْتِدْلَالا، فَأَما مَا يعرف ضَرُورَة فنحو أَخْبَار المخبرين عَن كَون بَغْدَاد فِي الدُّنْيَا وَغَيرهَا من الْأَمْصَار وَالسير والدول وَأَيَّام الماضين.
وَأما مَا يعرف صدق المخبرين فِيهِ اسْتِدْلَالا فَهُوَ مثل أَن يخبر عدد يعلم بمستقر الْعَادة أَنهم لَا يتَّفق مِنْهُم الْأَخْبَار عَن مخبر وَاحِد وفَاقا من غير رَغْبَة عَنهُ وَرَهْبَة وداعية وتواطىء، وتواضع وَخير يَقع وَدفع ضرّ، فَإِذا بدرت مِنْهُم الْأَخْبَار ونعلم باستمرار الْعَادة أَنهم لَا يتفقون من غير سَبَب، وعرفنا باطراد الْعَادة أَنه لَو تحقق سَبَب مَا ذَكرْنَاهُ لما أتكتم ويتحدثوا بِهِ على مر الزَّمَان فَإِن من قَضِيَّة الْعَادة أَن شَيْئا من الْأَسْبَاب الَّذِي قدمْنَاهُ لَا يعلم الْجمع الْكثير والجم الْغَفِير ثمَّ ينكتم، فَإِذا لم يظْهر عرف عدمهَا، فعلى هَذَا الْوَجْه يسْتَدلّ على صدقهم.
قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ هَذَا ذُهُول عَن التَّحْقِيق وَذَهَاب عَن تَحْصِيل مَقْصُود الْبَاب وَذَلِكَ أَنا نقُول: عدد التَّوَاتُر إِذا أخبروا عَن مُشَاهدَة وَكَانُوا صَادِقين لم يكن فيهم مقلد وَلَا مخمن فنعلم اضطرار صدقهم، وَلَا سَبِيل إِلَى دَرك صدقهم دَلِيلا، وَقد أوضحنا وَجه الرَّد على من زعم من الكعبي وَأَتْبَاعه أَن الْعلم بِصدق الْمُتَوَاتر علم اكْتِسَاب واستدلال، فَإِذا وَجب حُصُول هَذَا الْعلم اضطرارا فَإِذا لم يضْطَر إِلَى صدقهم فنعلم أَنهم كذبة أَو فِئَة مِنْهُم كذبة فِي الْأَخْبَار عَن الْمُشَاهدَة، وَلَوْلَا ذَلِك لعرفنا صدقهم ضَرُورَة فَإِن الَّذين نَعْرِف صدقهم ضَرُورَة لَا يجوز أَن تخْتَلف الْعَادة فيهم، فَإِن الْمعول فِي دَرك صدقهم على اسْتِمْرَار الْعَادة، فَلَو حرزنا اخْتِلَاف الْعَادة فِي ذَلِك لزمنا أَن نجوز أَن يخبر أهل بَغْدَاد عَن مُشَاهدَة صدقا فنعلم صدقهم تَارَة ضَرُورَة ويخبرون أُخْرَى فنتشكك فِي إخبارهم، وَهَذَا لَا سَبِيل إِلَيْهِ وَفِيه خلط الْبَاب، والخبط الْعَظِيم فِيهِ، فَخرج مِمَّا ذَكرْنَاهُ أَن أهل التَّوَاتُر إِذا لم يعرف صدقهم ضَرُورَة فَذَاك بِأَن فيهم مُقَلدًا أَو كذابا أَو مقلدين، وَكَذَلِكَ بِحَيْثُ ينقص الصادقون عَن أقل الْعدَد الْمُتَوَاتر فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، فَإِذا كُنَّا نصير إِلَى الَّذين لَا نَعْرِف صدقهم ضَرُورَة فنعلم أَن فيهم كذبة فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك وَطَلَبه عَن صدقهم.
وَالْوَجْه الَّذِي نفى الْعلم الضَّرُورِيّ أثبت الْقطع بِالْكَذِبِ فَتَأمل ذَلِك فَإِنَّهُ مزلة الْبَاب والذاهب عَنهُ سر التَّوَاتُر.
فَإِن قيل: فَلَو أَن أهل التَّوَاتُر أخبروا عَن مُشَاهدَة وَلم يضطروا إِلَى صدقهم فَأخْبر نَبِي أَنهم غير صَادِقين افيجوز ذَلِك؟
قُلْنَا: حاشا وكلا أَن نجوز ذَلِك فَإنَّا قَطعنَا بالطريقة الَّتِي مهدنا أَنا إِذا لم نعلم صدقهم ضَرُورَة فنعلم كذبهمْ أَو كذب بَعضهم، فَكيف يجوز وُرُود الْخَبَر عَن النَّبِي على خلاف الدَّلِيل الْمَبْنِيّ على الْعَادة مَعَ استمرارها.
فَإِن قيل: فَلَو صدق اربعة فِي خبرهم فَمَا قَوْلكُم فِيهَا؟
قُلْنَا: نعلم صدقكُم بتصديقه فَإِنَّهُم لَيْسُوا مِمَّا يجب صدقهم ضَرُورَة حَتَّى إِذا لم يحصل الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم فيستدل بذلك على كذبهمْ وَلَيْسوا كعدد أهل التَّوَاتُر، فَتَأمل ذَلِك وتجنب هَذِه الشُّبْهَة الطارئة على هَؤُلَاءِ.
فَإِن قيل: فَإِذا أخبرنَا الْعدَد الَّذِي اقْتضى إخبارهم مرَارًا الْعلم الضَّرُورِيّ وَلم يقتض إخبارهم فِي هَذِه الْكَثْرَة الْعلم الضَّرُورِيّ، أفتقطعون بكذبهم أَو كذب بَعضهم من غير تواطىء وشاغر أَو من غير سَبَب جَامع من رَغْبَة وَرَهْبَة.
قُلْنَا: لَا بُد فِي مُسْتَقر الْعَادة من سَبَب فِي ذَلِك.
فَإِن قَالُوا: أفتجوزون أَن يكون شَيْء من ذَلِك وينكتم وَلَا يظْهر.
قُلْنَا: لَا بُد وَأَن يظْهر ذَلِك فِي مُسْتَقر الْعَادة، فَخرج من ذَلِك أَن أهل التَّوَاتُر إِذا لم تقتض أخبارهم عَن الْمُشَاهدَة الْعلم الضَّرُورِيّ فَيقطع أَن فيهم كذبة، وَيقطع أَن ذَلِك اتّفق على تواطىء وَنَحْوه، وَلَا بُد أَن يظْهر ذَلِك إِذا تصور الْحَال فِي هَذِه الصُّورَة، وَقد يتَصَوَّر أَن يخبرنا جمع فِيهِ كذبة لَو تميزوا لقصر عدد الصَّادِقين فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى عَن أقل عدد التَّوَاتُر، وَكَانَ الكذبة بِحَيْثُ قد يتَّفق فِي مُسْتَقر الْعَادة الْكَذِب من مثلهم من غير سَبَب جَامع، وَإِذا كَانَت الْحَالة كَذَلِك فَلَا نحتاج إِلَى تَصْوِير الْأَسْبَاب وظهورها فَاعْلَم هَذِه الْجُمْلَة وتتبع حقائقها.
فَإِن قيل: فالشيعة بأسرها ينْقل نَص الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَلَا شكّ أَنهم عدد التَّوَاتُر وَكَذَلِكَ الْيَهُود ينْقل تَوْقِيف مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام على تأبيد شَرِيعَته وَلَا يحصل بهَا الْعلم الضَّرُورِيّ.
قُلْنَا: أما الشِّيعَة فَمَا نقلوا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شفاها وَلَكِن نقلوا مَا ادعوهُ عَمَّن تقدمهم وَنحن نضطر إِلَى الْعلم بانهم سمعُوا مَا نقلوه وَلَا نستريب فِي ذَلِك، بيد أَنه لم يتَحَقَّق فِي جملَة النقلَة من الْأَوْصَاف مَا يتَحَقَّق فيهم فِي زمننا، وَهَذَا هُوَ المعني بِمَا قدمْنَاهُ من اشْتِرَاط اسْتِوَاء الطَّرفَيْنِ والواسطة، وَكَذَلِكَ الْيَهُود صَادِقَة فِي سماعهَا الْمقَالة الَّتِي نقلهَا عَن من تقدمها وَلَكِن لم يستو طرف النقلَة وأوساطهم إِلَى مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ، وَقد قَالَ بعض الْعلمَاء: ان أول من لقنهم ذَلِك ابْن الراوندي لَعنه الله بأصبهان، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَنهم فِي زمن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أبدوا هَذِه الْمقَالة مَعَ اشتداد جدالهم وخصامهم، فَدلَّ أَنه قَول مُحدث، وَمثل هَذِه الدَّعْوَى لَو كَانَت فِي زمن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لنقلت فِي خصامهم، وَمَا كَانَت مِمَّا تخفى وَتذهب عَنْهَا النقلَة فِي اسْتِقْرَار الْعَادة.

.القَوْل فِي الْخَبَر الَّذِي يعلم صدقه بِدَلِيل، والإيماء إِلَى وُجُوه الْأَدِلَّة على الصدْق:

اعْلَم وفقك الله: أَن صدق الْخَبَر يعرف بأوجه، يجمعها قِسْمَانِ: أَحدهمَا: الضَّرُورِيّ وَالثَّانِي: الدَّلِيل، فَأَما الضَّرُورِيّ فقد سبق القَوْل فِيهِ، وَذكرنَا مَا يعرف صدقه اضطرارا، والمقصد من هَذَا الْبَاب تَبْيِين مَا يعرف صدقه اسْتِدْلَالا، وطرق الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار منقسمة.
فَمِنْهَا: دلالات الْعُقُول، فَكل خبر أنبأ عَن تثبيت شَيْء اَوْ نَفْيه وَدَلِيل الْعقل يَقْتَضِي ذَلِك الْمخبر على حسب مَا يَقْتَضِيهِ الْخَبَر وَهُوَ دَلِيل على صدقه. وَمن الْأَدِلَّة على الصدْق: أَن يصدق الرب مخبرا فِي خَبره، أَو يصدق رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي ثَبت وجوب صدقه، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّر أَمْثَال ذَلِك فِي زمن النُّبُوَّة.
وَمن الْأَدِلَّة على الصدْق: إِجْمَاع الْأمة فمهما أَجمعت الْأمة على صدق مخبر فِي خَبره علمنَا صدقه وَكَانَ الْإِجْمَاع دَلِيله عَلَيْهِ.
وَمن الْأَدِلَّة على الصدْق: أَن يخبر الْمخبر بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا يتَعَلَّق بِأَحْكَام الشَّرْع فيقرره رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أخباره وَلَا يُبْدِي عَلَيْهِ نكيرا مَعَ دلَالَة الْحَال على انْتِفَاء السَّهْو وَالنِّسْيَان عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمن الْأَدِلَّة على صدق الْأَخْبَار: أَن يخبر الْمخبر بَين أظهر جمَاعَة لَا يجوز عَلَيْهِم فِي مُسْتَقر الْعَادة التواطؤ على الْكَذِب من غير أَن يظْهر ذَلِك مِنْهُم، فَإِذا قَالَ الْمخبر لقد شَاهد هَؤُلَاءِ فلَانا يفعل كَذَا، أَو شاهدوه يَقُول كَذَا، فَإِذا صمت الْجَمِيع وسكتوا وَلم يبدوا عَلَيْهِ نكيرا، وَلم يظْهر مِنْهُ سَبَب تواطىء، فنعلم باستمرار الْعَادة أَن سكوتهم وَعدم ظُهُور الْأَسْبَاب الحاملة على الْكَذِب تدل على صدق الْمخبر.
فَإِن قيل: فَلَو أخبر الْجَمِيع الَّذين وصفتهم عَن أنفسهم فَمَا كَانَ قَوْلكُم فِي أخبارهم؟
قُلْنَا: لَو أخبروا بِأَنْفسِهِم عَمَّا شاهدوه وَكَانُوا عدد التَّوَاتُر وتجمعت فيهم جملَة الْأَوْصَاف الْمَشْرُوطَة فَيحصل لنا الْعلم الضَّرُورِيّ بصدقهم.
فَأَما صمتهم وتقريرهم الْمخبر عَنْهُم فَلَا يَقْتَضِي الْعلم الضَّرُورِيّ بيد أَنا نستدل على الصدْق عِنْد اسْتِمْرَار الْعَادة.
وَاعْلَم أَن ذَلِك مِمَّا لَا يسوغ تَعْلِيله، فَإِن الْعَادَات يجوز تَقْدِير انقلابها عقلا، فَإِذا استمرت على مَنْهَج مَعْلُوم وَلم يُعلل استمرارها فَلَو أجْرى الله تَعَالَى الْعَادة بِحُصُول الْعلم الضَّرُورِيّ عِنْد سكوتهم وتقريرهم الْمخبر يحصل ذَلِك كَمَا يحصل عِنْد أخبارهم بِأَنْفسِهِم.
فَإِن قيل: فَهَل تَقولُونَ على طرد ذَلِك أَن الْمخبر لَو أخبر عَمَّا يدْرك مُشَاهدَة وحسا وَلَكِن يعلم بطرِيق النّظر، فَإِذا نطق بذلك بَين أظهر جمع كَمَا وصفتموه فَلم يبدر مِنْهُم نَكِير فَهَل يسْتَدلّ بسكوتهم على مَا أخبر عَنهُ اعْتِقَادهم حَتَّى ينزل ذَلِك تصريحهم بالحكم؟
قُلْنَا: لَا نقُول ذَلِك، وَالسُّكُوت فِيمَا يدْرك بالاستدلال لَا ينزل منزلَة التَّصْرِيح، وَمَا قدمْنَاهُ فِيهِ إِذا اسند الْمخبر مَا أخبر عَنهُ إِلَى مُشَاهدَة الْجَمَاعَة وإحساسهم فَأَما إِذا كَانَ الْمخبر عَنهُ مدرك النّظر فَلَا يكون الْأَمر كَذَلِك وَهَذِه الْمَسْأَلَة تستقصى فِي مسَائِل الْإِجْمَاع إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَهَذِهِ الْأَدِلَّة على صدق خبر الْمخبر، وَلَيْسَ من جملَة الْأَدِلَّة أَن تتواتر الْأَخْبَار عَن جمع عدد التَّوَاتُر وَلَا يضْطَر إِلَى صدقهم، فَإِنَّهُ لَا يسوغ الِاسْتِدْلَال على صدقهم لَا يعلم صدقهم ضَرُورَة، وَقد استقصينا القَوْل فِي ذَلِك.
وَمِمَّا لَا يدل على صدق الْخَبَر أَن ينْقل خبر فَيعْمل أهل الْحل وَالْعقد بِمُوجبِه، فَلَا يدل عمله بِمُوجبِه على صدق الْخَبَر. وَهَذَا يَنْقَسِم قسمَيْنِ، أَحدهمَا أَن يتَّفق عَمَلهم بِمُوجب الْخَبَر وَيجوز أَنهم أطبقوا على الْعَمَل بِدلَالَة أُخْرَى سوى الْخَبَر الْمَنْقُول، أَو يجوز أَن يكون عمِلُوا بالْخبر فَلَا يقطع بِصدق الْخَبَر عِنْد تقَابل هذَيْن الجائزين. وَالْقسم الثَّانِي: أَن يعملوا بِمُوجب الْخَبَر وَيعلم بِصَرِيح قَوْلهم أَنهم إِنَّمَا أطبقوا على الْعَمَل بالْخبر فَلَا يقطع أَيْضا فِي هَذِه الصُّورَة بِصدق الْخَبَر، وَذَلِكَ أَنا نقُول إِجْمَاعهم على الْعَمَل لَا يتَضَمَّن بِصدق الْخَبَر فَإِن العاملين بِخَبَر الْآحَاد يعْملُونَ بِهِ وَلَا يقطعون بصدقه فَلَيْسَ فِي عَمَلهم بِهِ مصير إِلَى تَصْدِيق الْخَبَر، وَهَذَا كَمَا أَن الْأمة مجمعة على الحكم بِشَهَادَة الشُّهُود على الْجُمْلَة مَعَ إِجْمَاعهم على اسْتِحَالَة الْقطع بِصدق بعض الشُّهُود فِي الحكومات.
فَإِن قيل: قدمتم فِي صدر الْبَاب أَن إِجْمَاع الْأمة من الْأَدِلَّة على صدق الْخَبَر.
قُلْنَا: ذَلِك لَو أَجمعُوا على صدقه، وَالْإِجْمَاع على الْعَمَل بِهِ لَيْسَ بِإِجْمَاع على صدقه.